صفة الحج - 2
فإني أتقدم إلى إخواني بما تيسر من الكلام على شيء من الحج بمناسبة حلول وقته، راجيًا من الله تعالى أن يجعل عمل الجميع خالصًا لوجهه، ونافعًا ومقربًا إليه؛ إنه جواد كريم.
لما كان الحج لا بُدَّ له من السفر، بل هو نفسه سفر، كان من المهم أن نتكلم عن بعض أحكام السفر هنا، فللسفر أحكام تتعلق به، وأهمها ما يتصل بالصلاة، ويتلخص فيما يلي:
فالمسافر يجب عليه أن يتطهر بالماء -إن وجده- في وضوئه وغسله، فإن لم يجده تيمم صعيدًا طيبًا، فمسح بوجهه ويديه منه، فيضرب الأرض ضربة واحدة، ثم يمسح وجهه كله، وكفَّيه من أطراف أصابعه إلى كُوعِه، وهو مَفْصِل كفِّه من ذراعه.
وبذلك يكون متطهرًا طهارة كاملة، لا تنتقض إلا بما تنتقض به طهارة الماء أو بوجود الماء، فإذا تيمم لصلاة الظهر، وبقي على طهارته إلى العصر، صلى العصر بلا تيمم، وكذلك لو بقي إلى المغرب والعشاء على طهارته صلاهما بلا تيمم.
وإذا حصل على المسافر جنابة، ولم يجد الماء، تيمم، فارتفعت جنابته، فإذا وجد الماء عادت الجنابة، ووجب عليه الاغتسال، وإذا أحدث ببول أو غائط، ولم يجد الماء، تيمم، فارتفع حدثه، فإذا وجد الماء عاد حدثه، ووجب عليه الوضوء؛ لحديث: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ المَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» ، وفي حديث آخر: «طَهُورُ المُسْلِمِ» رواه أحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح[1]. والمسافر يمسح على خُفيه ثلاثة أيام بلياليها بخلاف المقيم، فيومًا وليلة. [1] أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب الجنب يتيمم، رقم (332)، والترمذي في كتاب الطهارة، باب ما جاء في التيمم للجنب، رقم (124)، والنسائي في كتاب الطهارة، باب الصلوات بتيمم واحد، رقم (323)، وأحمد (5/ 146) من حديث أبي ذر ، واللفظ المذكور أولًا للبزَّار (9/ 387) برقم (3973).
فالمسافر يصلي الصلاة الرباعية -وهي: الظهر، والعصر، والعشاء الآخرة- ركعتين فقط، من حين أن يخرج من بلده حتى يرجع إليها، سواء طالت مدة سفره أم قصرت، ففي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ من المدينة إِلَى مَكَّةَ (يعني: في حجة الوداع)، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: أَقَمْتُمْ بِمَكَّةَ شَيْئًا؟ قال: أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا" [2]. [2] أخرجه البخاري في كتاب التقصير، باب ما جاء في التقصير، رقم (1081)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (693).
وفيه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ في صَلاةِ الحَضَرْ" [3]. [3] أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء؟ رقم (350)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (685).
وفي رواية أخرى له: "فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأُولَى"[4]. [4] أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب من أين أرَّخوا التاريخ؟ رقم (3935).
ولمسلم: "فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْأُولَى"[5]. [5] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، رقم (685/2).
ولم يُحفـظ عن النبـي ﷺ أنـه أتم في سفـره مرة واحـدة، ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى أن قصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين واجب، وفي (صحيح البخاري) عن عبد الرحمن بن يزيد، قال:
"صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ"[6]. فجعل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه إتمام عثمان رضي الله عنه من المصائب؛ حيث استرجع له، وبيَّن أن سنة النبي ﷺ وصاحبيه على خلافه. [6] أخرجه البخاري في كتاب التقصير، باب الصلاة بمنى، رقم (1084)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى، رقم (695).
وقد كان عثمان رضي الله عنه يقصر في منى سِتَّ سنين أو ثماني سنين من خلافته، ثم أتمَّ، كما في (صحيح مسلم) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ بِمِنًى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ ثَمَانِيَ سِنِينَ - أَوْ قَالَ: سِتَّ سِنِينَ" [7]. وكان إتمامه لتأويل رآه رضي الله عنه، واختلفت الآثار وأقاويل العلماء في ذلك التأويل. [7] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى، رقم (694/18).
أما إذا صلى المسافـر خلف إمام يُتمُّ فإنه يجب عليه الإتمام، ففي (صحيح مسلم) عن موسى بن سلمة الهذلي قال: "سألت ابن عباس رضي الله عنهما: كَيْفَ أُصَلِّي إِذَا كُنْتُ بِمَكَّةَ، إِذَا لَمْ أُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: رَكْعَتَيْنِ، سُنَّةَ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ"[8]. [8] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (688).
وفيه أيضًا عن نافع، قال: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَإِذَا صَلَّاهَا وَحْدَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ" [9]. [9] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب قصر الصلاة بمنى، رقم (694/17).
وسواء دخل مع الإمام من أول الصلاة أم من أثنائها؛ لعموم قول النبي ﷺ: «فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»[10]. [10] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب لا يسعى إلى الصلاة، رقم (636)، وفي باب قول الرجل: فاتتنا الصلاة، رقم (635)، ومسلم في كتاب المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم (602) (603) من حديث أبي هريرة وأبي قتادة .
وأما الجمع للمسافر بين الظهر والعصر أو بين المغرب والعشاء فسُنَّةٌ حيث كان على ظهر سير، أي: حيث كان سائرًا؛ لما في (صحيح البخاري) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ" [11]. [11] أخرجه البخاري في كتاب التقصير، باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، رقم (1107) معلقًا.
أما إذا كان نازلًا فالسنة ألا يجمع؛ لأن النبي ﷺ لم يكن يجمع بمنى؛ لأنه كان نازلًا، وإن جمع فلا بأس، لا سيما إذا احتاج إلى ذلك؛ لشغل يقضيه أو نوم يستريح فيه، وفي (الصحيحين) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه،
أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِنْ قُبَّةٍ كَانَتْ لَهُ بِالأَبْطَحِ بِمَكَّةَ، قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: خَرَجَ بِالْهَاجِرَةِ -يَعْنِي: شِدَّةَ الحَرِّ- إِلَى البَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، الحديث[12]. [12] أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، رقم (3553)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، رقم (503).
وفي (صحيح مسلم) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جَمَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في سفرة سافرها فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَجمع بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، قَالَ سعيد: فقُلْتُ لابن عباس: مَا أَرَادَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: «أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ» [13]. وله عن معاذ بن جبل رضي الله عنه نحوه تمامًا[14]. [13] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، رقم (705/51). [14] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر، رقم (706).
فالمسافر يُشرع له أن يتطوع بالنوافل كما يتطوع المقيم، فيصلي صلاة الليل، والوتر، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وفي (صحيح البخاري) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:
"رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ، وَلَا يُسَبِّحُ بَعْدَ الْعِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ" [15]. [15] أخرجه البخاري في كتاب التقصير، باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء؟ رقم (1109)، وأخرجه مسلم مختصرًا في كتاب صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، رقم (703).
وفي (الصحيحين) عن سعيد بن يسار، قال: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَقَالَ سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ [16]. [16] أخرجه البخاري في كتاب الوتر، باب الوتر على الدابة، رقم (999)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر، رقم (700/36).
وفيهما أيضًا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: مَا أَخْبَرَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي الضُّحَى إِلَّا أُمُّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ [17]. [17] أخرجه البخاري في كتاب التقصير، باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات، رقم (1103)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، رقم (336/80).
وفيهما أيضًا عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»[18]. [18] أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، رقم (1163)، ومسلم في كتاب الصلاة، باب استحباب تحية المسجد، رقم (714).
وفيهما أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة الكسوف، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْوهما -يَعْنِي: مُنخَسِفَيْنِ- فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ»[19]. [19] أخرجه البخاري في كتاب الكسوف، باب خطبة الإمام في الكسوف، رقم (1046)، ومسلم في كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، رقم (901).
وفي (صحيح البخاري) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "كان النبي ﷺ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَهُوَ رَاكِبٌ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ"[20]. [20] أخرجه البخاري في كتاب التقصير، باب صلاة التطوع على الدواب، رقم (1094).
و(أل) في (التطوع) تحتمل الجنس، وتحتمل الاستغراق، ويؤيد الثاني: أن الأصل بقاء التطوع بالنوافل على مشروعيته حتى يرد دليل على تركه، ولم يرد الدليل على الترك فيما نعلم إلا في راتبة الظهر والمغرب والعشاء، ففي (صحيح مسلم) عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ قَالَ: فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ رَحْلَهُ وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَهُ فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ حَيْثُ صَلَّى، فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ: مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ -يَعْنِي: يُصَلُّونَ نَافِلَةً-، قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ صَلَاتِي يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. وَقَدْ قَالَ اللهُ: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ ﴾[21]. [الأحزاب:21]. [21] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (689)، كما أخرجه البخاري مختصرًا في كتاب التقصير، باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة، رقم (1101-1102).
وسبق من حديثه في الجمع بين المغرب والعشاء ما يدل على أن النبي ﷺ كان لا يصلي راتبة لهما [22]. [22] تقدم ذكره (ص: 7).
ومراد ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: «لو كنت مسبحًا لأتممت» أي: لو كنت متطوعًا بما تكمل به فريضتي من راتبة لأتممتها؛ بدليل: أنه صح عنه رضي الله عنه أنه كان يتطوع على راحلته، ويوتر عليها، ويخبر أن النبي ﷺ كان يفعله.
ومن تراجم البخاري رحمه الله في (صحيحه): «باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها»، و«باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة وقبلها».
أما راتبة الفجر فيصليها حضرًا وسفرًا؛ لأن النبي ﷺ لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر، ولم يكن يدعهما أبدًا، كما في (صحيح البخاري)، عن عائشة رضي الله عنها (3/ 42) من (الفتح)[23]. [23] أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب تعاهد ركعتي الفجر، رقم (1169)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، رقم (724/94).
وفي (صحيح مسلم) عن أبي قتادة رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَذَكَرَ قِصَّةَ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الفَجْرِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَهُمْ، فَسَارُوا عَنْ مَكَانِهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الغَدَاةَ، فَصَنَعَ كَمَا يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ[24]. [24] أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، رقم (681).
وإنما أطلنا الكلام في تطوع المسافر بالنافلة؛ لأن بعض الناس يرى أن لا تطوع للمسافر مطلقًا، وقد تبين مما ذكرنا: أن الذي دل عليه الدليل أنه لا يتطوع براتبة الظهر والمغرب والعشاء، وما عدا ذلك من النوافل فَبَاقٍ على مشروعيته، والله الموفق.
وللمسافر أن يتطوَّع في السفر وهو على ظهر مَرْكُوْبِهِ حيث كان وجهه، وإن لم يكن إلى جهة القبلة، ففي (صحيح البخاري) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ -يعني: الفريضة- نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ [26]. أخرجه البخاري في كتاب التقصير، باب ينزل للمكتوبة، رقم (1099).
ومن أحكام السفر: أنه ينبغي أن يكون مع المسافر رفقة؛ للإيناس، ودفع الحاجة، فلا ينبغي أن يسافر الرجل وحده إلا لحاجة أو مصلحة دينية، للجهاد في سبيل الله ونحوه، ففي (صحيح البخاري) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ»[27]. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب السير وحده، رقم (2998).
ومن أحكام السفر: أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم، سواء كان السفر بعيدًا أم قريبًا، وسواء كان للحج أم لغيره، وسواء كانت شابة جميلة أم عجوزًا شوهاء، وسواء كان معها نساء من أقاربها وصاحباتها أم لا، وسواء غلب على الظن سلامتها أم لا، وسواء كان ذلك في طيارة أو غيرها، ففي (الصحيحين) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي ﷺ يخطب يقول: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ ﷺ: «انْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ»[28]، فأطلق النبي ﷺ النهي عن سفر المرأة بدون محرم، ولم يقيده بسفر دون سفر، ولا بامرأة دون أخرى، ولا بحال دون حال، ولم يستفصل الرجل عن امرأته. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب من اكتتب في جيش، فخرجت امرأته حاجة، رقم (3006)، ومسلم في كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم، رقم (1341).
فالمحارم من القرابة أو الرضاع سبعة: الأب وإن علا، والابن وإن نزل، والأخ وابنه وإن نزل، وابن الأخت وإن نزل، والعم وإن علا، والخال وإن علا.
والمحارم من المصاهرة أربعة: أبو زوج المرأة وإن علا، وابن زوج المرأة وإن نزل، وزوج بنت المرأة وإن نزلت، والرابع: زوج أم المرأة وإن علت، بشرط: أن يكون قد دخل بها.
فُرِضَ الحج في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة على أرجح أقوال أهل العلم؛ لأن فرضه كان بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [آل عمران:97]، وتلك الآية في صدر سورة آل عمران النازل عام الوفود سنة تسع من الهجرة.
وحكمة تأخر فرضه -والله أعلم- أن مكة -زادها الله شرفًا- كانت قبل تلك السنة تحت سيطرة المشركين من قريش، فليس يتسنى للنبي ﷺ وأصحابه أن يحجوا على الوجه الأكمل، وما أَمْرُ عمرة الحديبية ببعيد، فقد صدَّ المشركون رسول الله ﷺ وأصحابه سنة ست من الهجرة عن إتمام عمرتهم.
فأما غير البالغ فلا يجب الحج عليه، لكن يصح منه، وله فيه أجر حج التطوع، وإذا بلغ أدى الفريضة؛ لأن حجه قبل بلوغه حج قبل وقت خطابه به، فهو كما لو أدى صلاة الفريضة قبل وقتها.
والعاجز عن الحج بماله -كالفقير، والرقيق- لا يجب عليه الحج؛ لقوله تعالى: ﴿مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ﴾ ، وهذا غير مستطيع، فلا يجب عليه.
وأما العاجز ببدنه فقط، فإن كان عجزه لا يرجى زواله -كالكِبَر، والمرض المستمر- فإنه يُوَكِّلُ من يحج عنه، وإن كان عجزه يرجى زواله -كالمرض الطارئ- فإنه ينتظر حتى يُشفى منه، ثم يحج، فإن مات قبل ذلك حُجَّ عنه من تركته.
ومتى وجب الحج على المسلم وجب عليه المبادرة إلى أدائه؛ لأن أوامر الله ورسوله إذا لم تكن مقيدة بوقت، ولم تقم قرينة على أنها للتراخي، فهي على الفور، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ قال: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ - يَعْنِي الْفَرِيضَةَ -، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ» [29]. رواه أحمد، وفي سنده ضعف، لكن القول بالفورية له أدلة عامة تؤيد هذا الحديث. أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 314).
الثاني: الجُحفة -وهي قرية قديمة خَرِبَتْ، فجعل الناس بَدَلَها رابغًا- لأهل الشام، ومن مرَّ بها من غيرهم إن لم يمروا بذي الحليفة قبلها.
ومن حاذاها من طريـق الجو أو البحر، وجب عليه أن يُحْرِمَ عند محاذاتها، ولا يجوز له تأخير الإحرام حتى يهبط في المطار أو يرسي في الميناء؛ لأن هذا من تعدي حدود الله، ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ [البقرة:229].
ومن كان دون هذه المواقيت من مكة أحرم من موضعه، حتى من في مكة يُحرمون من مكة إلا للعمرة، فيحرمون من خارج الحرم، أي: من وراء الأميال من الحِلِّ؛ لقول النبي ﷺ لعبد الرحمن بن أبي بكر: «اخْرُجْ بِأُخْتِكَ -يعني: عائشة- من الْحَرَمِ، فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ» [30]. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب قول الله تعالى: ﴿ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ﴾، رقم (1560)، ومسلم في كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، رقم (1211/123) من حديث عائشة رضي الله عنها.
ومن مرَّ بهذه المواقيت لا يريد حجًا ولا عمرة -كمن يريد تجارة، أو زيارة قريب، أو طلب علم، ونحوها- لم يجب عليه الإحرام؛ لأن الحج والعمرة لا يجبان في العمر أكثر من مرة، ولا إحرام إلا في حج أو عمرة.
فالتمتَُعُ: أن يُحرم بالعمرة في أشهر الحج -أي: بعد دخول شهر شوال- ويفرغ منها، ثم يُحرم بالحج من عامه.
والقِران: أن يَقْرِنَ بين الحج والعمرة، فيحرم بهما جميعًا، أو يحرم بالعمرة وحدها، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها.
وجمهور العلماء على أن الإنسان مخيَّرٌ بين هذه الأنساك، واختلفوا في الأفضل منها، والصحيح: أن الأفضل التمتع؛ لأن النبي ﷺ أمر به أصحابه، وحثهم عليه، ولأنه أكثر عملًا؛ لأنه يأتي بأفعال العمرة كاملة، وأفعال الحج كاملة، ولأنه أيسر من غيره لمن قدم مكة في وقت مبكر؛ حيث يتمتع بالحل فيما بين العمرة والحج.
ويجب بالتمتع هدي شُكْرَانَ، لَا جُبْرَانَ، مما يُجْزِئُ في الأضحية من شاة أو سُبُعِ بدنة أو سبع بقرة، يذبحه يوم العيد أو في الأيام الثلاثة بعده، وَيُفَرِّقُهُ بِمِنًى أو بمكة، ويأكل منه، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، لا يتجاوز بهن الأيام الثلاثة بعد العيد، وسبعة أيام إذا رجع.
1- إذا أراد أن يُحْرِمَ بالعمرة اغتسل كما يغتسل للجنابة، وتطيب بأطيب ما يجد في رأسه ولحيته، ولبس إزاراً ورداءً أبيضين، والمرأة تلبس ما شاءت من الثياب غير ألا تتبرج بزينة.
2- ثم يصلي الفريضة إن كان وقت فريضة؛ ليُحرم بعدها، فإن لم يكن وقت فريضة صلَّى ركعتين بنية سنة الوضوء، لا بنية سنة الإحرام؛ لأنه لم يثبت عن النبي ﷺ أن للإحرام سنة.
3- ثم إذا فرغ من الصلاة نوى الدخول في العمرة، فيقول: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكِ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكِ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ عُمْرَةً» يرفع الرجل صوته بذلك، وتُخفِيه المرأة.
4- فإذا وصل إلى مكة بدأ بالطواف من حين قدومه، فيقصد الحجر الأسود، فيستلمه -أي: يمسحه- بيده اليمنى ويُقَبِّلُه إن تيسر بدون مزاحمة، وإلا أشار إليه، ويُكَبِّر.
ثم ينحرف، فيجعل البيت عن يساره، فإذا مَرَّ بالركن اليماني -وهو آخر ركن يمر به بعد ركن الحجر- استلمه بيده اليمنى إن تيسر بدون تقبيل.
ويذكر الله، ويسبحه في طوافه، ويدعو بما أحب في خشوع وحضور قلب، وكلما أتى الحجر الأسود كَبَّر، ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [البقرة:201]، وأما التَّقَيَّدُ بدعاء معين لكُلِّ شوطٍ فليس له أصل من السنة، بل هو بدعة محدَثةٌ.
5- فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين وراء مقام إبراهيم، ولو بَعُدَ عنه، يقرأ بعد الفاتحة في الأولى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ [الكافرون:1] وفي الثانية: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:1].
وبذلك تمت العمرة، وحل من إحرامه، فيتمتع بكل ما أحل الله له قبل الإحرام من اللباس والطيب والنكاح وغير ذلك.
1- فإذا كان يوم التروية -وهو اليوم الثامن من ذي الحجة- أَحرم بالحج من مكانه الذي هو نازل فيه، ويفعل عند إحرامه كما فعل عند إحرام العمرة من الغسل، والطيب، ولبس ثياب الإحرام.
2- فإذا فرغ من ذلك نوى الدخول في الحج، فيقول: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك اللهم حجًا»، يرفع الرجل صوته بذلك، وتخفيه المرأة.
3- ثم يخرج إلى منى، فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يقصر الرباعية إلى ركعتين، ولا يجمع.
4- فإذا طلعت الشمس من اليوم التاسع سار إلى عرفة، فينزل بنمرة -إن تيسر له- إلى الزوال، وإلا نزل بعرفة، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر قصرًا وجمعًا، ثم تفرغ لذكر الله ودعائه، يستقبل القبلة في ذلك -ولو كان الجبل خلفه- حتى تغرب الشمس.
5- فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة، فصلى بها المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين، ويبيت بها، فإذا صلى الفجر اشتغل بذكر الله ودعائه حتى يُسْفِرَ جدًا.
6- فإذا أسفر جدًا سار إلى منى، فإذا وصل إليها بدأ برمي جمرة العقبة، وهي أقرب الجمرات إلى مكة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، كل حصاة فوق الحُمُصَّة قليلاً، ويكبر مع كل حصاة بخشوع وتعظيم لله تعالى.
فإذا فرغ من رميها نحر هديه إن تيسر، ثم حلق رأسه كله أو قصره، والحلق أفضل إلا المرأة، فتقصر من رأسها بقدر أنملة.
وبالرمي والحلق أو التقصير يحل من إحرامه التحلل الأول، فيلبس ثيابه، ويتطيب، ويفعل كل ما أحل الله له قبل الإحرام ما عدا النساء، فإنه لا يحل له ما يتعلق بهن حتى يحل التحلل الثاني.
ثم ينزل إلى مكة، فيطوف طواف الحج، ويسعى بين الصفا والمروة على صفة ما سبق في طواف العمرة وسعيها إلا أنه لا يرمل في الطواف، ولا يضطبع؛ لأنهما -أعني: الرمل والاضطباع- لا يشرعان في غير الطواف أول ما يَقدُم.
وبالطواف والسعي المسبوقين برمي الجمرة والحلق أو التقصير، يحل التحلل الثاني، فيحلُّ له كل ما أحل الله له قبل الإحرام حتى النساء.
8- ويرمـي الجمرات الثلاث في هذين اليومين بعـد الـزوال، يبدأ بالجمرة الأولى، وهي أبعد الجمرات عن مكة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ويكبر مع كل حصـاة، فإذا فـرغ منها تقدم قليلًا عن الزحام، فوقف مستقبل القبلة، رافعًا يديه، يدعو الله تعالى بما أحب دعاء طويلًا، ثم يرمي الجمرة الثانية، ويقف بعدها للدعاء كما فعل في الأولى سواء، ثم يرمي الجمرة الثالثة -وهي جمرة العقبة التي رماها يوم العيد- كما رمى الجمرتين قبلها، ولا يقف بعدها للدعاء.
9- فإذا أتم رمي الجمرات الثلاث في اليوم الثاني عشر، فإن شاء تأخر في منى لليوم الثالث عشر، ورمى الجمار فيه بعد الزوال، وهو أفضل؛ لأنه فعل النبي ﷺ، وفيه زيادة عمل صالح، وإن شاء تعجل في يومين، فخرج من منى في اليوم الثاني عشر قبل الغروب.
وينبغي أن يُكثر من التكبير والذكر في تلك الأيام والليالي؛ لقوله تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ﴾ [البقرة:203]، وقول النبي ﷺ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللهِ»[31]. أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، رقم (1141) من حديث نبيشة الهذلي .
إذا أنهى الحاج جميع أفعال الحج، وأراد الرجوع إلى بلده، فإنه لا يخرج من مكة حتى يطوف بالبيت طواف الوداع، يجعله آخر أموره عند سيره.
وليس على الحائض والنفساء طواف وداع؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالبيت، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ»[32]. أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب طواف الوداع، رقم (1755)، ومسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع، رقم (1328/380).
وفدية هذه المحظورات الخمسة على التخيير، كما ذكره الله تعالى في القرآن في حلق الرأس، وقِيسَ عليه الباقي، فيُخَيَّرُ بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، ويُفرق الطعام والشاة على المساكين، إما في مكة، أو في مكان فعل المحظور.
7- عقد النكاح، وليس فيه فدية، لكن النكاح يفسد، سواء كان المحرم الزوج أو الزوجة أو الولي أو وكيله فيه.
8- قتل الصيد البرِّيِّ المتوحِّش، وعليه جزاؤه، وهو ذبح مثله، يُفرِّقُه على فقراء الحرم، أو تقويمُهُ بطعام يُفرِّقُهُ على فقراء الحرم، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يومًا.
2- لبس المخيط، وهو كل ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه أو عضو من أعضائه، كالقميص والسراويل والخفين، فأما الإزار والرداء المرقَّع فلا بأس به، وكذلك لا بأس بلبس الخاتم، والساعة، ونظارة العين، وسماعة الأذن، ووعاء النفقة، ونحوها.
تغطية الوجه على أي صفةٍ كانت، وقال بعض العلماء: المحظور عليها النقاب فقط، وهو أن تغطي وجهها بغطاء منقوب لعينيها فيه، والأولى ألا تغطيه مطلقًا إلا أن يراها رجال غير محارم لها، فيجب عليها ستره في حال الإحرام وغيره.
الثانية: أن يفعله لحاجة، فليس بآثم، وعليه فديته، قال الله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ بِهِۦٓ أَذٗى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡيَةٞ مِّن صِيَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكٖۚ﴾ [البقرة:196]، فلو احتاج إلى تغطية رأسه -من أجل برد أو حرٍّ يخاف منه- جاز له تغطيته، وعليه الفدية على التخيير بين ما سبق.
الثالثة: أن يفعله وهو معذور بجهل أو نسيان أو إكراه أو نوم، فلا إثم عليه، ولا فديـة؛ لقولـه تعالـى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ﴾ [البقرة:286]، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»[33]. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، رقم (2043) (2045) عن أبي ذر وابن عباس .
لكـن متى زال العـذر، فعلم بالمحظور، أو ذكـره، أو زال إكراهـه، أو استيقظ من نومه، وجب عليه التخلي عنه -أي: عن المحظور- فورًا.
المسجد النبوي أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهي: المسجد الحرام في مكة، والمسجد النبوي في المدينة، والمسجد الأقصى في القدس. والصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، ومن أجل هذا تُشرع زيارة المسجد للصلاة فيه كل وقت، وليس خاصًا في وقت الحج، ولا علاقة له بالحج، فالحج يكمل بدونه، ولا ينقص بتركه، لكن الناس جعلوه مع الحج؛ ليكون السفر لهما واحدًا، لا سيما لمن يشق عليه إفراد كل واحد منهما بسفر، كأهل الأقطار البعيدة.
فإذا دخل المسجد صلى فيه ما شاء الله، ثم ذهب إلى قبر النبي ﷺ، فوقف أمامه، وقال: «السَّلَامُ عَلَيْكَ - أَيُّهَا النَّبِيُّ - وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اللَّهم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ؛ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ».
ثم يخطو عن يمينه قليلًا؛ لِيُسلِّمَ على أبي بكر رضي الله عنه، فيقول: «السلام عليك يا أبا بكر، يا خليفة رسول الله ﷺ، رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيرًا».
ثم يخطو عن يمينه قليلا؛ ليسلم على عمر رضي الله عنه، فيقول: «السلام عليك يا أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيرًا».
ويزور البقيع، وهو مقبرة المدينة، فيسلم على عثمان رضي الله عنه، فيقف على قبره ويقول: «السلام عليك يا أمير المؤمنين عثمان، رضي الله عنك، وجزاك عن أمة محمد خيرًا»، ويسلم على أهل البقيع، ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة.