أخطاء يرتكبها بعض الحجاج - 2
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا﴾ [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: ﴿فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]، وقال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: ﴿فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ﴾ [النمل: 79]، وقال تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعۡدَ ٱلۡحَقِّ إِلَّا ٱلضَّلَٰلُۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ﴾ [يونس: 32].
فكل ما خالف هدي النبي ﷺ وطريقته فهو باطل وضلال، مردود على فاعله؛ كما قال النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[1] أي: مردود على صاحبه غير مقبول منه. [1] أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718/18)، وأخرجه بمعناه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم (2697) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وإِنَّ بعض المسلمين -هداهم الله ووفقهم- يفعلون أشياء في كثير من العبادات غير مَبنِيَّة على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، ولا سيما في الحج الذي كثُر فيه المُقْدِمُون على الفتيا بدون علم، وسارعوا فيها حتى صار مقام الفتيا مَتجرًا عند بعض الناس للسُّمعة والظهور، فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل، والواجب على المسلم ألا يُقْدِم على الفتيا إلا بعلم يواجه به الله جل جلاله؛ لأنه في مقام المبلِّغ عن الله تعالى القائل عنه، فليتذكر عند الفتيا قوله في نبيه ﷺ: ﴿وَلَوۡ تَقَوَّلَ عَلَيۡنَا بَعۡضَ ٱلۡأَقَاوِيلِ، لَأَخَذۡنَا مِنۡهُ بِٱلۡيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعۡنَا مِنۡهُ ٱلۡوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ عَنۡهُ حَٰجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44-47]، وقوله تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا -أعني: عن الفتيا بغير علم- وعن تقليد العامة بعضهم بعضًا دون برهان.
ونحن نُبيِّن -بعون الله تعالى- السنة في بعض الأعمال التي يكثر فيها الخطأ، مع التنبيه على الأخطاء، سائلين من الله أن يوفقنا، وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين؛ إنه جواد كريم.
ثبت في (الصحيحين) وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ وقَّت لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام: الجُحفة، ولأهل نجد: قَرْنَ المنازل، ولأهل اليمن: يلملم. وقال: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ»[2]. [2] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب مهل أهل الشام، رقم (1526)، ومسلم في كتاب الحج، باب مواقيت الحج، رقم (1181).
وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النَّبيَّ ﷺ وَقَّتَ لأهلِ العراقِ: ذاتَ عِرْقٍ. رواه أبو داود والنسائي[3]. [3] أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب في المواقيت، رقم (1739)، والنسائي في كتاب المناسك، باب ميقات أهل العراق، رقم (2657).
وثبت في (الصحيحين) أيضًا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ» الحديث[4]. [4] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب ميقات أهل المدينة، رقم (1525)، ومسلم في كتاب الحج، باب مواقيت الحج والعمرة، رقم (1182/13).
فهذه المواقيت التي وقَّتها رسول الله ﷺ حدود شرعية توقيفية موروثةٌ عن الشارع، لا يَحِل لأحد تغييرها، أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج أو العمرة؛ فإن هذا من تعدِّي حدود الله، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ [البقرة: 229]، ولأن النبي ﷺ قال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «يُهلُّ أَهلُ المدينة... وَيُهِلُّ أهلُ الشام... وَيُهِلُّ أهل نجد»، وهذا خبر بمعنى الأمر، والإهلال: رفع الصوت بالتلبية، ولا يكون إلا بعد عَقْدِ الإحرام.
فالإحرام من هذه المواقيت واجب على من أراد الحج أو العمرة إذا مَرَّ بها أو حاذاها، سواءٌ أتى من طريق البرِّ أو البحر أو الجو.
فإن كان من طريق البَرِّ نزل فيها إن مر بها أو فيما حاذاها إن لم يمر بها، وأتى بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام من الاغتسال، وتطييب بدنه، ولبس ثياب إحرامه، ثم يُحْرِم قبل مغادرته.
وإن كان مِن طريق البحر، فإن كانت الباخرة تقف عند محاذاة الميقات اغتسل، وتطيَّب، ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها، ثم أحرم قبل سيرها، وإن كانت لا تقف عند محاذاة الميقات اغتسل، وتطيَّب، ولبس ثياب إحرامه قبل أن تحاذيه، ثم يُحرم إذا حاذته.
وإن كان من طريق الجو اغتسل عند ركوب الطائرة، وتطيب، ولبس ثوب إحرامه قبل محاذاة الميقات، ثم أحرم قبيل محاذاته، ولا ينتظر حتى يحاذيه؛ لأن الطائرة تمر به سريعة، فلا تعطي فرصة، وإن أحرم قبله احتياطًا فلا بأس؛ لأنه لا يضره.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس: أنهم يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو من فوق محاذاته، ثم يؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة، وهذا مخالف لأمر النبي ﷺ، وتَعَدٍّ لحدود الله تعالى.
وفي (صحيح البخاري) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: لما فُتِح هذان المصران (يعني: البصرة والكوفة) أتوا عمر رضي الله عنه، فقالوا: يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَإِنَّهُ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قالَ: "فَانْظُرُوا إِلَى حِذَائِهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ"[5]. فجعل أمير المؤمنين أحد الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه، ومن حاذاه جوًا فهو كمن حاذاه برًا، ولا فرق. [5] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب ذات عرق لأهل العراق، رقم (1531).
فإذا وقـع الإنسان في هذا الخطأ، فنزل جُدَّة قبل أن يُحرم، فعليه أن يرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة، فيُحرم منه، فإن لم يفعل، وأحرم من جدة، فعليه -عند أكثر العلماء- فدية يذبحها في مكة، ويُفرِّقها كلها على الفقراء فيها، ولا يأكل منها، ولا يُهدي منها لغنيٍّ؛ لأنها بمنزلة الكفارة.
ثبت عن النبي ﷺ أنه ابتدأ الطواف من الحجر الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت[6]، وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحجر[7]، وأنه رَمَل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أول ما قَدِمَ مكة[8]، وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود ويُقبِّله[9]، واستلمه بيده وقَبَّلَها[10]، واستلمه بِمِحجَنٍ كان معه، وقَبَّل المِحجن، وهو راكب على بعيره[11]، وطاف على بعيره، فجعل يشير إلى الركن -يعني: الحجر- كلما مر به[12]، وثبت عنه أنه كان يستلم الركن اليماني[13]. [6] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب من ساق البدن معه، رقم (1691) (1692)، ومسلم في كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع، رقم (1227) (1228) من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما. كما أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه. [7] أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 90) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [8] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة، رقم (1603)، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف، رقم (1261) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. كما أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه. [9] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب تقبيل الحجر، رقم (1611) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [10] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب الرمل في الحج والعمرة، رقم (1606)، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف، رقم (1268/ 246) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [11] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير، رقم (1275) من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه. [12] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه، رقم (1612) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [13] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، رقم (1609)، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف، رقم (1267) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
واختلاف الصفات في استلام الحجر إنما كان -والله أعلم- حسب السهولة، فما سَهُلَ عليه منها فَعَلَه، وكل ما فعله من الاستلام والتقبيل والإشارة إنما هـو تعبُّدٌ لله تعالى، وتعظيم لـه، لا اعتقاد أن الحجر ينفـع أو يضر.
وفي (الصحيحين) عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يُقبِّل الحجر، ويقول: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنفَعُ، وَلَولَا أَنِّي رَأَيتُ النَّبيَّ ﷺ يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُكَ»[14]. [14] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، رقم (1597)، ومسلم في كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود، رقم (1270).
1- ابتداء الطواف من قبل الحجر، أي: من بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي ﷺ[15]، وهو يشبه من بعض الوجوه تقدم رمضان بيوم أو يومين، وقد ثبت النهي عنه[16]. [15] أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، رقم (3059)، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، رقم (3029)، وأحمد (1/ 347) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [16] أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، رقم (1914)، ومسلم في كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، رقم (1082) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وادِّعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطًا غير مقبول منه، فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
2- طوافهم عند الزحام بالجزء المسقوف من الكعبة فقط، بحيث يدخل من باب الحِجْرِ إلى الباب المقابل، ويَدَعُ بقية الحجر عن يمينه، وهذا خطأ عظيم لا يصح الطواف بفعله؛ لأن الحقيقة أنه لم يطف بالبيت، وإنما طاف ببعضه.
4- المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر لتقبيله، حتى إنه يُؤدي في بعض الأحيان إلى المقاتلة والمشاتمة، فيحصل من التضارب والأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا العمل، ولا بهذا المكان في مسجد الله الحرام، وتحت ظلِّ بيته، فينقص بذلك الطواف، بل النسك كله؛ لقوله تعالى: ﴿ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ ﴾ [البقرة:197]، وهذه المزاحمة تُذهب الخشوع، وتُنسي ذكر الله تعالى، وهما من أعظم المقصود في الطواف.
5- اعتقادهم أن الحجر نافع بذاته، ولذلك تجدهم إذا استلموه مسحوا بأيديهم على بقية أجسامهم أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم، وكل هذا جهل وضلال، فالنفع والضرر من الله وحده، وقد سبق قول أمير المؤمنين عمر: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنفَعُ، وَلَولَا أَنِّي رَأَيتُ النَّبيَّ ﷺ يُقَبِّلُك ما قَبَّلْتُكَ».
6- استلامهم -أعني: بعض الحجاج- لجميع أركان الكعبة، وربما استلموا جميع جدران الكعبة، وتَمَسَّحُوا بها، وهذا جهل وضلال؛ فإن الاستلام عبادة وتعظيم لله جل جلاله، فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي ﷺ، ولم يستلم النبي ﷺ من البيت سوى الركنين اليمانيين: الحجر الأسود -وهو في الركن اليماني الشرقي من الكعبة- والركن اليماني الغربي.
وفي مسند الإمام أحمد عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه، فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، فقال ابن عباس: لِمَ تَسْتَلِمُ هذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَسْتَلِمُهُمَا؟ فقالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ البَيْتِ مَهْجُورًا. فقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. فقالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ [17]. [17] أخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في استلام الحجر، رقم (858)، وأحمد (1/ 332).
ثبت عن النبي ﷺ أنه كان يُكَبِّرُ الله تعالى كلما أتى على الحجر الأسود[18]، وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [19] [البقرة:201]، وقال: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ»[20]. [18] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب التكبير عند الركن، رقم (1613) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [19] أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب الدعاء في الطواف، رقم (1892)، وأحمد (3/ 411) من حديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه. [20) أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب في الرمل، رقم (1888)، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء كيف ترمى الجمار؟، رقم (902)، وأحمد (6/ 64) من حديث عائشة رضي الله عنها.
والخطأ الذي يرتكبـه بعض الطائفين في هـذا: تخصيص كل شـوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره، حتى إنه إذا أتم الشوط قبل تمام الدعاء قطعه ولو لم يبق عليه إلا كلمة واحدة؛ ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط سكت، ولم يَرِد عن النبي ﷺ في الطواف دعاء مخصص لكل شوط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وليس فيه -يعني: الطواف- ذِكر محدود عن النبي ﷺ لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب ونحو ذلك؛ فلا أصل له»[21]. [21] مجموع الفتاوى (26/ 122).
وعلى هذا، فيدعو الطائف بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، ويذكر الله تعالى بأي ذكر مشروع من تسبيح أو تحميد أو تهليل أو تكبير أو قراءة قرآن.
ومن الخطأ الذي يرتكبـه بعض الطائفين: أن يأخـذ هذه الأدعيـة المكتوبة، فيدعو بها، وهو لا يعرف معناها، وربما يكون فيها أخطاء من الطابع أو الناسخ تَقْلِبُ المعنى رأسًا على عَقِب، وتجعل الدعاء للطائف دعاء عليه، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر، وقد سمعنا من هذا العَجَبِ العُجَاب.
ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه، فيقصد معناه، لكان خيراً له وأنفع، ولرسول الله ﷺ أكثر تأسياً وأتبع.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين: أن يجتمع جماعة على قائد يطوف بهم، ويُلَقِّنهم الدعاء بصوت مرتفع، فيَتبَعُه الجماعة بصوت واحد، فتَعلُو الأصوات وتحصل الفوضى، ويتشوَّش بقية الطائفين، فـلا يدرون ما يقولون، وفي هذا إذهاب للخشوع، وإيذاء لعباد الله تعالى في هذا المكان الآمن، وقد خرج النبي ﷺ على الناس وهم يُصَلُّون، ويجهرون بالقراءة، فقال النبي ﷺ: «كُلُّكُمْ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقُرْآنِ» رواه مالك في (الموطإ)[22]، قال ابن عبد البر: «وهو حديث صحيح»[23]. أخرجه مالك في كتاب وقوت الصلاة، باب العمل في الصلاة، رقم (213) برواية يحيى ابن يحيى. ت. بشار عواد. التمهيد (23/319).
ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة وقف بهم، وقال: افعلوا كذا، قولوا كذا، ادعوا بما تحبون، وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطئ منهم أحد، فطافوا بخشوع وطمأنينة يدعون ربهم -خوفًا وطمعًا- بما يحبونه وما يعرفون معناه ويقصدونه، وسَلِمَ الناس من أذاهم.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَرَأَ: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ﴾ [البقرة: ١٢٥]، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالمَقَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَعْبَةِ[24]، وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ ٱلْأُولَى: ٱلْفَاتِحَةَ وَ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾، وفي الثانية: سورة الفاتحة و﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾[25]. [24] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه. [25] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم (1218) مرسلاً.
والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا: ظنهم أنه لا بد أن تكون صلاة الركعتين قريبًا من المقام، فيزدحمون على ذلك، ويُؤذون الطائفين في أيام الموسم، ويُعَوِّقُون سير طوافهم، وهذا الظن خطأ.
فالركعتان بعد الطواف تجزئان في أي مكان من المسجد، ويمكـن المصلي أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة وإن كان بعيداً عنه، فيصلي في الصحن أو في رِواق المسجد، ويَسْلَمُ من الأذية، فلا يؤذي ولا يُؤذَى، وتحصل له الصلاة بخشوع وطمأنينة.
ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريباً منه، وبيَّنوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف.
ومن الخطأ: أن بعض الذين يُصَلُّون خلف المقام يُصَلُّون ركعات كثيرة بدون سبب، مع حاجة الناس الذين فرغوا من الطواف إلى مكانهم.
ومن الخطأ: أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوت مرتفع، فيشوِّشون على المصلين خلف المقام، فيَعْتَدُون عليهم، وقـد قـال الله تعالـى: ﴿ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ﴾ [الأعراف: 55].
ثبت عن النبي ﷺ أنه حين دنا من الصفا قرأ: ﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ ﴾ [البقرة: 158]، ثم رَقَى عليه حتى رأى الكعبة، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، فجعل يحمد الله، ويدعو ما شاء أن يدعو، فوحَّد الله وكبَّره، وقال: «لَا إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ ٱلْأَحْزَابَ وَحْدَهُ» ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَٰلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ هَٰذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ مَاشِيًا، فَلَمَّا ٱنْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ ٱلْوَادِي، وَهُوَ مَا بَيْنَ ٱلْعَلَمَيْنِ ٱلْأَخْضَرَيْنِ، سَعَىٰ، حَتَّىٰ إِذَا تَجَاوَزَهُمَا، مَشَىٰ، حَتَّىٰ أَتَى ٱلْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى ٱلْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى ٱلصَّفَا[26]. [26] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
والخطأ الذي يفعله بعض الساعين هنا: أنهم إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة، فكبَّروا ثلاث تكبيرات يرفعون أيديهم، ويُومِؤُون بها كما يفعلون في الصلاة، ثم يَنزلون، وهذا خلاف ما جاء عن النبي ﷺ، فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم، وإما أن يَدَعُوا ذلك، ولا يُحدِثوا فعلا لم يفعله النبي ﷺ.
ومن الخطأ الذي يفعله بعض الساعين: أنهم يسعون من الصفا إلى المروة، أعني: أنهم يشتدون في المشي فيما بين الصفا والمروة كله، وهذا خلاف السنة؛ فإن السعي فيما بين العلمين فقط، والمشي في بقية المسعى، وأكثر ما يقع ذلك إما جهلًا من فاعله، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي، والله المستعان.
ومن الخطأ: أن بعض النساء يسعين بين العلمين، أي: يُسرعن في المشي بينهما كما يفعل الرجال، والمرأة لا تسعى، وإنما تمشي المشية المعتادة؛ لقـول ابن عمر رضي الله عنهما: «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَمَلٌ بِالْبَيْتِ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ»[27]. [27] أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (5/ 164) برقم (13097) ط. الرشد.
ومن الخطأ: أن بعض الساعين يقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ﴾ [البقرة:158] كلما أقبلوا على الصفا أو على المروة، والسنة: أن يقرأها إذا أقبل على الصفا في أول شوط فقط.
ثبت عن النبي ﷺ أنه مكث يوم عرفة بِنَمِرَة حتى زالت الشمس، ثم ركب، ثم نزل، فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، ثم ركب حتى أتى موقفه، فوقف، وقال: «وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»، فلم يزل واقفًا مستقبل القبلة رافعًا يديه، يذكر الله ويدعوه حتى غربت الشمس، وغاب قُرصها، فدفع إلى مزدلفة[28]. [28] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، وباب ما جاء أن عرفة كلها موقف، رقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
1- أنهم ينزلون خارج حدود عرفة، ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس، ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج؛ فإن الوقوف بعرفة ركن لا يصح الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حجَّ له؛ لقول النبي ﷺ: «الحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ»[29]. [29] أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، رقم (1949)، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع، رقم (889)، والنسائي في كتاب المناسك، باب فرض الوقوف بعرفة، رقم (3019)، وابن ماجه في كتاب الحج، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، رقم (3015)، وأحمد (4/ 309) من حديث عبد الرحمن ابن يعمر رضي الله عنه.
وسبب هذا الخطإ الفادح: أن الناس يَغْتَرُّ بعضهم ببعض؛ لأن بعضهم ينزل قبل أن يَصِلها، ولا يتفقد علاماتها، فيُفوِّت على نفسه الحج، ويُغِرُّ غيره.
ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم، وبلغات متعددة، وعهدوا إلى المطوفين بتحذير الحجاج من ذلك؛ ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، ويؤدوا حجهم على الوجه الأكمل الذي تبرأ به الذمة.
2- أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا حرام؛ لأنه خلاف سنة النبي ﷺ، حيث وقف إلى أن غربت الشمس، وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عمل أهل الجاهلية.
3- أنهم يستقبلون الجبل (جبل عرفة) عند الدعاء، ولو كانت القبلة خلف ظهورهم أو عن أيمانهم أو شمائلهم، وهذا خلاف السنة؛ فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي ﷺ.
ثبت عن النبي ﷺ أنه رمى جمرة العقبة -وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة- بسبع حصيات ضُحى يوم النحر، يُكبر مع كل حصاة[30]، كل حصاة منها مثل حصى الخذف، أي: فوق الحمص قليلًا. [30] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب إذا رمى الجمرتين يقوم ويسهل مستقبل القبلة، رقم (1751) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
وفي (سنن النسائي) من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما -وكان رديف النبي ﷺ من مزدلفة إلى منى- قال: فهبط (يعني: النبي ﷺ) محسرًا، وقال: «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ»، قال: والنبي ﷺ يشير بيده كما يخذف الإنسان[31]. [31] أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب من أين يلتقط الحصى؟، رقم (3060)، كما أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة، رقم (1282).
وفي (مسند الإمام أحمد) عن ابن عباس رضي الله عنهما -قال يحيى: لا يدري عوف عبد الله، أو الفضل؟- قال: قال لي رسول الله ﷺ غداة العقبة، وهو واقف على راحلته: «هَاتِ الْقُطْ لِي» فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: «بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ» مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ بِيَدِهِ - فَأَشَارَ يَحْيَى أَنَّهُ رَفَعَهَا - وَقَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ»[32]. [32] أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (1/ 347)، كما أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، رقم (3059)، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، رقم (3029).
وعن أم سليمان بنت عمرو بن الأحوص رضي الله عنها قالت: رأيت النبي ﷺ يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر، وهو يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا؛ إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَارْمُوهَا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ» رواه أحمد[33]. [33] أخرجه الإمام أحمد في «المسند» (3/ 503)، كما أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب في رمي الجمار، رقم (1966).
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يُسْهِل، فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلًا، ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيُسْهِل، ويقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلًا، ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، فيقول: هكذا رأيت النبي ﷺ يفعله[34]. [34] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب إذا رمى الجمرتين يقوم ويسهل مستقبل القبلة، رقم (1751).
وروى أحمد وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ»[35]. [35] أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب في الرمل، رقم (1888)، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء كيف ترمى الجمار؟، رقم (902)، وأحمد (6/ 64).
1- اعتقادهم أنه لا بد من أخذ الحصى من مزدلفة، فيُتعبون أنفسهم بِلَقطها في الليل، واستصحابها في أيام منى، حتى إن الواحد منهم إذا ضاع حصاه حزن حزنًا كبيرًا، وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضل ما معهم من حصى مزدلفة.
وقـد عُلِمَ مما سبـق: أنـه لا أصل لذلك عن النبي ﷺ، وأنه أمر ابن عباس رضي الله عنهما بلقط الحصى له، وهو واقف على راحلته، والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة؛ إذ لم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيره من مزدلفة قبل ذلك، ولأن هذا وقت الحاجة إليه، فلم يكن ليأمر بلقطها قبله؛ لعدم الفائدة فيه، وتَكلُّف حمله.
2- اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشياطين، ولهذا يُطلقون اسم الشياطين على الجمار، فيقـولون: رمينا الشيطان الكـبير أو الصـغير، أو رمينا أبا الشياطين. يعنون به: الجمرة الكبرى جمرة العقبة، ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر.
وتراهم -أيضًا- يرمون الحصى بشدة وعنف وصراخ وسَبٍّ وشتم لهذه الشياطين على زعمهم، حتى شاهدنا من يصعد فوقها يبطش بها ضربًا بالنعل والحصى الكبار بغضب وانفعال، والحصى تُصيبه من الناس، وهو لا يزداد إلا غضبًا وعنفًا في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون، كأن المشهد مشهد مسرحية هزلية، شاهدنا هذا قبل أن تُبنى الجسور، وترتفع أنصاب الجمرات.
وكل هذا مبني على هذه العقيدة: أن الحجاج يرمون شياطين، وليس لها أصل صحيح يعتمد عليه، وقد علمت مما سبق الحكمة في مشروعية رمي الجمار، وأنه إنما شرع لإقامة ذكر الله جل جلاله؛ ولهذا كان النبي ﷺ يُكَبِّرُ على إثر كل حصاة.
3- رميهم الجمرات بحصى كبيرة وبالحـذاء (النعـل) والخِفـاف (الجزمات) والأخشاب، وهذا خطأ كبير مخالف لما شرعه النبي ﷺ لأمته بفعله وأمره، حيث رمى ﷺ بمثل حصى الخذف، وأمر أمته أن يرموا بمثله، وحذَّرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير: ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين.
4- تقـدُّمهم إلى الجمرات بعنف وشـدة لا يخشعـون لله تعالـى، ولا يرحمون عباد الله، فيحصل بفعلهم هذا من الأذية للمسلمين، والإضرار بهم، والمشاتمة والمضاربة ما يَقْلِبُ هذه العبادة، وهذا المشعر إلى مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شُرِعَت من أجله، وعما كان عليه النبي ﷺ، ففي (المسند) عن قدامة بن عبد الله بن عمار قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَوْمَ النَّحْرِ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ، لَا ضَرْبَ وَلَا طَرْدَ، وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ. رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح[36]. [36] أخرجه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية طرد الناس عند رمي الجمار، رقم (903)، والنسائي في كتاب المناسك، باب الركوب إلى الجمار، رقم (3063)، وابن ماجه في كتاب المناسك، باب رمي الجمار راكبا، رقم (3035)، وأحمد (3/ 413).
5- تركهم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق، وقد عَلِمت أن النبي ﷺ كان يقف بعد رميهما مستقبل القبلة، رافعًا يديه يدعو دعاءً طويلًا.
ويا حبذا لو أن الحاج تعلَّم أحكام الحج قبل أن يحج؛ ليعبد الله تعالى على بصيرة، ويحقق متابعة النبي ﷺ، ولو أن شخصًا أراد أن يسافر إلى بلد لرأيته يسأل عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالة، فكيف بمن أراد أن يسلك الطريق الموصلة إلى الله تعالى، وإلى جنته؟ أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلكها؛ ليصل إلى المقصود؟
6- رميهم الحصى جميعًا بكف واحدة، وهذا خطأ فاحش، وقد قال أهل العلم: إنه إذا رمى بكف واحدة أكثر من حصاة لم يُحتَسب له سوى حصاة واحدة. فالواجب أن يرمي الحصى واحدة فواحدة؛ كما فعل النبي ﷺ.
7- زيادتهم دعوات عند الرمي لم تَرِد عن النبي ﷺ، مثل قولهم: «اللهم اجعلها رضًا للرحمن، وغضبًا للشيطان»، وربما قال ذلك، وترك التكبير الوارد عن النبي ﷺ، والأولى: الاقتصار على الوارد عن النبي ﷺ من غير زيادة، ولا نقص.
8- تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم، فتراهم يُوكلُّون من يرمي عنهم، مع قدرتهم على الرمي؛ ليسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام، ومشقة العمل، وهذا مخالف لما أمر الله تعالى به من إتمام الحج؛ حيث يقول سبحانه: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ﴾ [البقرة:196].
فالواجب على القادر على الرمي: أن يُباشره بنفسه، ويصبر على المشقة والتعب؛ فإن الحج نوع من الجهاد لا بد فيه من الكَلَفة والمشقة، فليتق الحاج ربه، وليتم نسكه كما أمره الله تعالى به ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
ثبت في (الصحيحين) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ»[37]. [37] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب طواف الوداع، رقم (1755)، ومسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع، رقم (1328/380).
وفي لفظ لمسلم عنه، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي ﷺ: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ»[38]. [38] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع، رقم (1327).
ورواه أبو داود بلفظ: «حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ»[39]. [39] أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب الوداع، رقم (2002).
وفي (الصحيحين) عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكـي، فقال: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ»، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي إِلَى جَانِبِ الْبَيْتِ، وَيَقْرَأُ بـ :﴿وَٱلطُّورِ، وَكِتَٰبٖ مَّسۡطُورٖ﴾[40]. [40] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب المريض يطوف راكبًا، رقم (1633)، ومسلم في كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره، رقم (1276).
وللنسائي عنها، أنها قالت: يا رسـول الله، والله ما طُفْت طـواف الخروج. فقال ﷺ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكَ، مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ»[41]. [41] أخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج، باب طواف الرجال مع النساء، رقم (2929).
وفي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ ﷺ صلَّى الظُّهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ، ثمَّ رقدَ رَقْدةً بالمُحَصَّبِ، ثمَّ رَكِبَ إلى البيتِ، فطافَ به[42]. [42] أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب طواف الوداع، رقم (1756).
وفي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها، أن صفية رضي الله عنها حاضت بعد طواف الإفاضة، فقال النبي ﷺ: «أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟» فَقَالوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، وَطَافَتْ بِالبيت. قال: «فلتَنفِرْ إذن»[43]. [43] أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم (4401)، ومسلم في كتاب الحج، باب وجوب طواف الوداع، رقم (1211/382).
وفي (الموطإ) عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن عمر رضي الله عنه قال: «لَا يَصْدُرَنَّ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ، حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَإِنَّ آخِرَ النُّسُكِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ»[44]. [44] أخرجه مالك في كتاب الحج، باب وداع البيت، رقم (1079) برواية يحيى بن يحيى. ت. بشار عواد.
وفيه عن يحيى بن سعيد، أن عمر رضي الله عنه رَدَّ رجلًا من مَرِّ الظهران لم يكن ودَّع البيت، حتى ودع[45]. [45] أخرجه مالك في كتاب الحج، باب وداع البيت، رقم (1081) برواية يحيى بن يحيى. ت. بشار عواد.
1- نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفوا للوداع، ثم يرجعوا إلى منى، فيرموا الجمرات، ثم يُسافروا إلى بلادهم من هناك، وهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لأمر النبي ﷺ أن يكون آخر عهد الحجاج بالبيت، فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار، لا بالبيت، ولأن النبي ﷺ لم يطف للوداع إلا عند خروجه، حين استكمل جميع مناسك الحج، وقد قال: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[46]، وأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه صريح في أن الطواف بالبيت آخر النسك. [46] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم العيد راكبًا، رقم (1297) من حديث جابر رضي الله عنه.
فمن طاف للوداع، ثم رمى بعده، فطوافه غير مجزئ؛ لوقوعه في غير محله، فيجب عليه إعادته بعد الرمي، فإن لم يَعُد كان حكمه حكم من تركه.
2- مكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكون آخر عهدهم بالبيت، وهذا خلاف ما أمر به النبي ﷺ، وَبَيَّنَهُ لأمته بفعله؛ فإن النبي ﷺ أَمَرَ أن يكون آخر عهد الحاج بالبيت، ولم يطف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه.
ولكن رخص أهل العلم في الإقامة بعد طواف الوداع للحاجة إذا كانت عارضة، كما لو أقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع، فصلاها، أو حضرت جنازة، فصلى عليها، أو كان له حاجة تتعلق بسفره، كشراء متاع، وانتظار رفقة، ونحو ذلك، فمن أقـام بعد طواف الوداع إقامة غير مُرَّخَص فيها وجبت عليه إعادته.
3- خروجهم من المسجد بعد طواف الوداع على أقفيتهم، يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلاف السنة، بل هو من البِدع التي حذرنا منها رسول الله ﷺ، وقال فيها: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[47]، والبدعة: كل ما أُحْدِث من عقيدة أو عبادة على خلاف ما كان عليه رسول الله ﷺ وخلفاؤه الراشدون، فهل يَظن هذا الراجع على قفاه؛ تعظيمًا للكعبة على زعمه، أنه أشد تعظيمًا لها من رسول الله ﷺ؟! أو يظن أن النبي ﷺ لم يكن يعلم أن في ذلك تعظيمًا لها لا هو، ولا خلفاؤه الراشدون؟! [47] أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867) من حديث جابر رضي الله عنه.
4- التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع، ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع؛ لأنه لم يَرِد عن النبي ﷺ، ولا عن خلفائه الراشدين، وكل ما قُصد به التعبد لله تعالى، وهو مما لم يرد به الشرع، فهو باطل مردود على صاحبه؛ لقول النبي ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ»[48] أي: مردود على صاحبه. [48] أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور، رقم (2697)، ومسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718/17) من حديث عائشة رضي الله عنها.
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله: أن يكون في عباداته متبعًا لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؛ لينال بذلك محبة الله ومغفرته؛ كما قال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾ [آل عمران:31]، واتباع النبي ﷺ كـما يكـون في مفعولاته، يكون كذلك في متروكاته، فمتى وُجد مقتضي الفعل في عهده، ولم يفعله، كان ذلك دليلًا على أن السنـة والشريعة تركـه، فـلا يجوز إحداثـه في دين الله تعالـى، ولـو أحبه الإنسان وهـواه، قال الله تعالـى: ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ﴾ [المؤمنون:71]، وقال النبي ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»[49]. [49] أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (ص:12) برقم (15)، والبغدادي في «تاريخ بغداد» (6/ 21)، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 212) برقم (104)، وانظر: شرح الحديث الواحد والأربعين من «الأربعين النووية» لابن رجب رحمه الله في «جامع العلوم والحكم».