موسوعة المحتوى الإسلامي المترجم

حراسة التوحيد - 3

الرسالة الأولى

العقيدة الصحيحة وما يضادها

تأليف سماحة الشيخ

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فإنه لما كانت العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام، وأساس الملة، فلقد رأيت أن من المهم الحديث عن هذا الموضوع، والكتابة والتأليف في بيانه وتوضيحه.

ومن المعلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة: أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، أما إن كانت العقيدة غير صحيحة فإنه يبطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ [المائدة: 5].

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ [الزمر: 65].

والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقد دل كتاب اللّه المبين وسُنَّة رسوله الأمين، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم؛ على أن العقيدة الصحيحة تتلخص في ستة أمور، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشرّه. فهذه الأمور الستة هي: أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمدًا عليه الصلاة والسلام،

وقد جاءت الأدلة متكاثرة على هذه الأصول الستة في الكتاب والسنة الصحيحة، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي:

أولاً: الأدلة من الكتاب؛ منها: قول الله عز وجل: ﴿ لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ﴾ [البقرة: 177].

وقوله سبحـــانه وتعالى: ﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّن رُّسُلِهِۦۚ﴾ [البقرة: 285]،

وقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا﴾ [النساء: 136]،

وقوله سبحانه: ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ﴾ [الحج: 70].

ثانياً: الأدلة من السنة؛ منها الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن جبريل عليه السلام سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-  عن الإيمان، فقال له: «الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر ،وتؤمن بالقدر خيره وشره»[1] الحديث، وأخرجه الشيخان - مع اختلاف يسير- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [1] أخرجه مسلم (8).

و يتفرع عن هذه الأصول الستة: كل ما يجب على المسلم اعتقاده، والإيمان به في حق الله عز وجل، وفي أمر المعاد، وغير ذلك من أمور الغيب؛ مما أخبر به الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وبيان هذه الأصول الستة كما يلي: الأصل الأول: الإيمان بالله تعالى، وهو يتضمن عدة أمور؛ منها: الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه؛ لكونه خالق العباد، والمحسن إليهم، والقائم بأرزاقهم، والعالم بسرهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم.

وقد خلق الله الثقلين؛ لأجل هذه العبادة، وأمرهم بها، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ، مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ، إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56-58].

وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ، ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22].

وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب: لبيان هذا الحق، والدعوة إليه، والتحذير مما يضاده، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ ﴾ [النحل: 36].

وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].

وقال –عز وجل- ﴿الر  كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ  إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ [هود: 1-2].

وحقيقة هذه العبادة: هي إفراد الله سبحانه وتعالى بجميع ما تعبد به العباد؛ من دعاءٍ، وخوف ،ورجاء، وصلاة، وصوم، وذبح، ونذر، وغير ذلك من أنواع العبادة، على وجه الخضوع له، والرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، مع كمال الحب له، والذل لعظمته.

ومن تأمل في القرآن الكريم: وجد أن غالبه نزل في هذا الأصل العظيم؛ كقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ﴾ [الزمر: 2-3].

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23].

وقوله –عز وجل- ﴿فَٱدۡعُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ [غافر: 14].

وهكذا من تأمل السنة النبوية وجد الاهتمام بهذا الأصل الكبير أيضاً، ومن ذلك: ما روي في الصحيحين عن معاذ –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم-  قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا»[2]. [2] أخرجه البخاري (2856)، ومسلم (30).

ويدخل في الإيمان بالله أيضاً: الإيمان بجميع ما أوجبه على عباده، وفرضه عليهم؛ من أركان الإسلام الخمسة الظاهرة،

وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، وغير ذلك من الفرائض التي جاء بها الشرع المطهر.

وأهم هذه الأركان وأعظمها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهذه الشهادة تقتضي: إخلاص العبادة لله وحده ونفيها عما سواه، وهذا هو معنى: لا إله إلا الله، فمعناها -كما قال العلماء رحمهم الله-: لا معبود بحق إلا الله، وبناء على ذلك: فإن كل ما عبد من دون الله -من بشر أو ملك أو جني أو غير ذلك- فهو معبود بالباطل، والمعبود بالحق هو الله وحده لا شريك له، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ﴾ [الحج: 62].

وقد سبق بيان: أن الله سبحانه وتعالى خلق الثقلين لهذا الأصل الأصيل، وأمرهم به، وأرسل به رسله، وأنزل به كتبه؛ فعلى العبد أن يتأمل ذلك جيدًا، ويتدبره كثيرًا؛ ليتضح له ما وقع فيه أكثر المسلمين من الجهل العظيم بهذا الأصل؛ حتى عبدوا مع الله غيره، وصرفوا خالص حقه لسواه، فالله المستعان.

ومن الإيمان بالله سبحانه، الإيمان بأنه خالق العالم ومدبر شؤونهم والمتصرف فيهم بعلمه وقدرته كما يشاء سبحانه، وأنه مالك الدنيا والآخرة ورب العالمين جميعا لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأنه أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ لإصلاح العباد، ودعوتهم إلى ما فيه نجاتهم وصلاحهم في العاجل والآجل، وأنه سبحانه لا شريك له في جميع ذلك، قال تعالى: ﴿ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٞ﴾ [الزمر: 62].

وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَ يَطۡلُبُهُۥ حَثِيثٗا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۭ بِأَمۡرِهِۦٓۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].

ومن الإيمان بالله تعالى أيضاً: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلا في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].

فيجب أن تمر كما جاءت بلا كيف، مع الإيمان بما دلّت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف للّه –عز وجل-، ووجوب وصفه تعالى بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال تعالى: وقال –عز وجل- ﴿فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [النحل: 74].

فهذه هي: عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-  وأتباعهم بإحسان؛ في أسماء الله وصفاته، وهي التي نقلها الإمام: أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب " المقالات" عن أصحاب الحديث وأهل السنة، ونقلها غيره من أهل العلم والإيمان.

قال الأوزاعي رحمه الله: سئل الزهري ومكحول عن آيات الصفات، فقالا: أمروها كما جاءت[3]. [3] أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (735)، وابن عبد البر في جامع العلم وفضله (1801)، ولكن بلفظ الأحاديث بدلاً عن آيات الصفات، ولفظه: "ارووا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تناظروا فيها".

وقال الأوزاعي -أيضاً- رحمه الله: كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله سبحانه على عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من الصفات [4]. [4] أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (865)، وصحح إسناده ابن تيمية في الحموية (ص: 269)، وقال الذهبي في العرض (2/223): رواته أئمة ثقات.

وقال الوليد بن مسلم رحمه الله: (سئل مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثوري رحمهم الله عن الأخبار الواردة في الصفات، فقالوا جميعا: أمروها كما جاءت بلا كيف)[5]. [5] أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (930)، والبيهقي في الأسماء والصفات (955).